شهيق...زفير...إلى روح أمي!
بقلم الأستاذ / خالد العبيد
شهيق...
*في فجر يوم الأربعاء الموافق 1/7/1435هــ دخلت أمي في معركة شرسة حامية الوطيس مع ملك الموت فكانت تريد البقاء وكان يريدها أن ترحل فلقد حانت ساعة قيامتها لم تجدِ أبداً محاولات الأطباء في الإبقاء على أمي حية ولم يكن لتشبثي بها وبكائي واستجدائي أي تأثير أو نتيجة فلقد حسم ملك الموت المعركة قبل شروق الشمس فغابت شمس أمي!
زفير...
*هذا هو الرمضان الخامس الذي غابت فيه أمي عن سفرة الفطور إلى الأبد
كانت أمي تنتظر رمضان كل سنة بشغف وحب واستقبال حار فتعانقه بالدموع وتترحم على من رحلوا ولم يصوموه!
حتى رمضان لم يعد كما كان يا أمي فلم تعد أنفاسك تعطر حياتي وتشعرني بالراحة! ارقدي يا أماه بسلام لعل الساعة تكون قريبا..
شهيق...
*سأحاول أن أدثر ذاكرتي المرتجفة شوقاً للماضي بمعطف النسيان البالي المثقوب والذي انتهى عمره الافتراضي فجر يوم الأول من تموز عام ٢٠١٥م الفجر الذي فيه رحلت أمي من دار الشقاء إلى دار البقاء فأشقاني مماتها وأبقاني أصارع أحزان الحياة وحيداً دون من كانت هي مفتاح سعادتي.
زفير...
*كنت ولازلت قوياً أمام عيون طلابي إلا أن أحد مواضيع المنهج كان يتحدث عن الأم وكنت قريب عهد بوفاة أمي.
هذا الموضوع كان كفيلاً بأن يجعلني أتساقط شيئاً فشيئاً أمام طلابي بداية بدمعة خرجت قسراً ونهاية بالخروج من الفصل إلى مكان لا أعرفه فقط أريد الخروج والخروج من نفسي أيضاً.
شهيق...
*الأشياء الجميلة تتكرر كثيراً في الحياة ولا تأتي إلا مرة واحدة ومن ثم تطوى في سجل النسيان.. أمي هي أجمل شيء ولن تتكرر أتت مرة واحدة وغادرت الحياة مرة واحدة ولن يستطيع النسيان أن يمحو ملامحها من ذاكرتي مهما طال الزمن أو قصر...
زفير...
*لاح لي طيف أمي في منامي ليلة البارحة فأشعرني بسعادة لم أذقها منذ آخر عناق عانقت فيه أمي حينما كانت أنفاسها تتغلغل في أذني فأصاب بهدوء وطمأنينة لامثيل لهما. لقد كانت ليلة حالمة جميلة تمنيت لو استمرت طويلاً ولم يعكر صفوها الاستيقاظ للواقع
شهيق...
*برغم أنني عشت مع أمي لفترة أستطيع أن أقول بأنها شبه طويلة إلا أنها لم تعلمني أبجديات الصبر عند موتها كنت لا أستوعب أنها ستموت.
زفير...
* تموت الأمهات في كل أرض ومن كل جنس ويبقى الألم واحداً...
شهيق...
*في الأجواء الربيعية وصباحاً كنت أصحو من النوم على صوت ماكينة خياطة أمي وأنظر إليها بنصف عين فتبتسم وأبتسم
ليتني لم أكن شيئا مذكورا
زفير...
*في الصباح الباكر كانت أمي تشعل سعف النخيل تحت الصاج لتصنع لنا الرغيف ونحن نغط في نوم مؤقت! والآن أمي تغط في نوم أبدي ولم يعد للرغيف طعم!....
شهيق...
*ولايزال في جعبتي الكثير من الألم أحمله معي في كل مكان وزمان في المآتم والأفراح لقد أصبح الألم جزءاً مني بعد ممات أمي فأدمنت الألم وأدمنني هو
زفير...
*ولم أكن أتوقع أن البسمة أم والسعادة أم والعطف أم والراحة أم والحنان أم والحياة أم.. إلا بعد أن ماتت أمي ففقدت كل شيء جميل بعدها..
شهيق...
*كانت نساء الحي يجتمعن كل جمعة عند إحداهن فكنت أدخل المنزل ولا أجد أمي فأسأل عنها ويقولون عند جارتنا! ياالله أجمل بها من أيام مضت...
كانت قصة حياتي جميلة جدا تقمصت فيها عدد من الشخصيات الرائعة لم تكن الابتسامة تفارق محياي إلى أن ماتت أمي فقمت بعدها بدفن كل شيء في مقبرة النسيان!!...
زفير...
*أصيبت أمي بجلطة في الدماغ شلت نصفها الأيسر تماماً كنت أستلقي بجانبها وتتحامل على نفسها وألمها لتضمني في النصف الأيمن الذي تسري فيه الحياة لتشعرني بالحنان ولو بنصف جسد!..
شهيق...
* رغم مضي خمس سنوات لازلت غير مصدق ولازال عقلي يملي علي بأن أمي لم تمت وأنها هناك في غرفتها الصغيرة في بيتنا القديم جالسة على سجادتها تصلي الضحى!...
زفير...
*آهٍ ياأماه لقد تفطر قلبي كمداًوحزناً لفراقك ياليتك تستطيعين أن ترفعي رأسكِ من الكفن لأقبله قبلة تحيي ألف جرح وجرح أحدثه مماتك في قلبي وجسدي!...
شهيق...
*بعد مماتك أمي زاد همي وغمي!
فاشتقت إلى صدرك وفكرت بنبش قبرك!
فتذكرت غضب الله وأنه لايفلح من عصاه!
فأصبحت بين نار وآه!...
زفير...
*ليلة البارحة حلمت بالعائلة مجتمعة إلا أمي!
أماه!!
غادرتِ من واقعي بسبب الموت فرضيت وقنعت
! أن تغادري حتى من أحلامي فهذا مما لا أطيقه يا أماه!..
شهيق...
*سلام الله على قبرٍ اشتقت إلى تقبيل ترابه كونه يحوي في أحشائه رفات أطهر جسد وأحن قلب!
سلام الله عليك يا أمي سلام وروح وريحان وجنتان مدهامتان...
زفير...
*كان أول لقاء عرفت فيه أمي-رحمها الله- قبل أن أُولد بتسعة أشهر تمنيت أن تكون به نهايتي قبل أن أراها على الأرض فليتني لم أراها وليتني لم أُولد!...
شهيق...
*لازال قلبي كطائر مهاجر لامكان يحويه ولازمان يقيد رفرفت جناحيه كان آخر مرة ذاق فيها طعم الاستقرار رغم أنه لم يحس فيه حينما كان بيضة في عش أمه...
زفير...
*كانت أمي توبخني حينما كنت أحك عيني بيدي فتأخذ منديلاً وتضع عليه ماء بارد فتمسحها برفق!
هي نفس عيني يا أماه التي مسحتيها بكت على موتك الآن
شهيق...
*ماذا لو رأتني أمي والشيب يعلو ذقني الذي طالما مسحته بيدها الحانية وأنا طفل مستبعدةً أن يشيب في يوم من الأيام!
إنه فراقك يا أماه أشعلني شيبا!
زفير...
*لازال صوت أمي مستقر في صيوان أُذني أحتاج لسماعه كلما تعالت أصوات الناس وكلما أرهقني الزمن بضجيجه.
شهيق...
*حينما تحين لحظة المغيب.. أهب مسرعاً لأجلس أمام غروب الشمس على أمل أن يظهر طيف أمي وراء الأفق لأقبله وأبكي حد الإغماء!
زفير...
*لقد كان آخر عهدي بأمي حينما واريت جثمانها التراب سحقاً لي كيف طاوعتني نفسي أن أحثو التراب على وجهها الطاهر! لكنها سنة الله في خلقه..!
شهيق...
*اشتقت إليكِ يا أمي يا زينة اللبن اشتقت لمعانقتكِ حتى وإن كنتِ رفاتاً تذروه الرياح...
زفير...
*كنت يا أماه مدرسة أتعلم فيها فنون الطفولة فنون الرجولة فنون الجمال فنون الكمال فنون الإنسانية فنون القيم والحنية بعدك يا أماه المدارس أغلقت!
شهيق...
*خلال سنة واحدة فقط من وفاة أمي أحسست أني تجاوزت السبعين عاماً.. لقد هرمتُ بعدك يا أماه..
زفير...
*كلما عاودني الحنين إلى الحنين تذكرتك يا أمي وأنتِ علي تتأملين تذكرت كل دمعة ذرفتيها كل بسمة أطلقتيها لأجل... أماه صعب أن تمري من ثقوب ذاكرتي!
شهيق...
*كالعصافير الجائعة صباح كل يوم كنا نتحلق أنا وأخواتي حول مائدة الإفطار وأم بسعادة تجهز المائدة! أستطيع أن أقول بأن أمي أعظم امرأة في تاريخي!
زفير...
*كان أول صوت يداعب مسامعي صباح كل يوم هو صوت أمي حينما توقظني لصلاة الفجر وبعدها للذهاب إلى المدرسة! كان أجمل صوت سمعته في حياتي!
شهيق...
*من المستحيل أن أنسى قنينة عطر أمي الذي كانت تعطر به طرحتها السوداء فهذه الرائحة هي ماتبقى لي من أمي فكلما ساورني الشوق لرائحة أمي استنشقت هذا العطر بنفس عميق فأشعر بالسعادة والارتياح.
زفير...
*تمنيت لو أن أمي كانت تصغرني بأربعين عاماً.. ولم تمت..!
شهيق...
* أمي أيتها الغائبة عن الدنيا الباقية بين معوج أضلعي متضرعا باكيا متفائلا داعيا أن يجعل الله قبرك روضة من رياض الجنة وأن يباعد بينك وبين خطاياك كما باعد سبحانه بين المشرق والمغرب وأن يغسلك بالماء والثلج والبرد.
زفير...
*سلام عليكِ يا أمي يوم ولدتِ ويوم متِ ويوم تبعثين حية.
4 pings