قُّوم الأيديولوجيَا
بقلم الأستاذ / عزُّ الدينْ جوهري *
نحتاج أكثرْ من أيّ وقت مضى إلى الحديث عن الأيديولوجيَا وحصادها المر ، والذي خلف أطنانًا من الجماجم والهياكل العظمية التي أثقلتْ كاهل الأرضْ ، وملايين القوافلْ البشرية اليومية التي تذهب نحو الحتفْ بسبب معتقداتهم وأفكارهم ، وبسبب اختلافهم في لغاتهم وطريقة حياتهم وجوازمهم ولون بشرتهمْ ، كل ذلكَ بسبب شحنات الكراهية التي نقذفها !!
لكن الحقيقة تقر بأن الكائنات البشرية استخلفت في الأرض لغاية التواصل والتحاب وفق نسيج إنساني خلاب لا نعترفُ فيه إلا بالإنسان من حيث هو لحم ودم يجوع ويعرى ويبكي ويتألم ويحب ويكرهْ بعيدًا عن الاختلافات التي توظف في مطاحنات ومناوشات فكرية ودينية لأجل إلغاء المختلف عنّي والإبقاء على الذي يتفق وقناعتي امتثالًا لتلك الحكمة الرَّاقية التي توصل إليها العالم لويس باستور حين وضع على باب عيادته لافتة مكتوب عليها : "لا يهمني ما لونك..ما جنسك..ما عنصركَ ..من أي البلاد جئتَ..أنت هنا تتألم وهذا يكفيني .. " ، أو كما قالَ الحكيم مارتن لوثر كينغ : " الأبيض دائمًا أبيضْ والأسود دائمًا أسود..لكن يخرج منهما دم واحد أحمر"
والحق أن الأيديولوجيَا ساهمتْ في هذا الميراث الدموي الذي حدث في بقع متفرقات من العالم ، وأصبح الإنسان بسببها عدوا لأخيه الإنسانْ ، حتى توصل أحدنا إلى المجيء من أمريكا لقتل أبرياء في العراق وأفغانستان ، والصومالَ وكوسوفَا وغيرها من بلاد الله باسم الأيديولوجيَا ، والصهاينة الآن يقتلون باسمها وتحت لواءها والنَّازية كانت تقتل باسمها كذلك ، وأوروبا مكتظة بجرائم عنصرية وفاشية ، والعرب كذلكَ كانوا ولا زالوا يفعلونَ ذلكَ..يتهاوشون ويقتل بعضهم بعضًا ويعظ أحدهم الآخرْ ، كتلك التي تحدث بسبب مذاهبنَا وانتماءاتنا الفكرية والطائفية ، ونحن من كل هذا مقتولون دائمًا كبشرْ وكآدميين بيد الصهاينة وبيد الأمريكان وبيد الغرب في عمومه ، ومقتولون بأيدينَا .. هي لعبة الضحية والجلاد .. القوي والضعيف..الغرب والشرقْ..الجنوب والشمالْ .. السيدُ والعبدْ .. الأقوى و الأضعفْ .. إنه رهان وحراك لإبادة الجنس البشري ، والزج به في حروب ومعاركْ تفضي إلى مزيد من التطاحنْ معرفيًا وإنسانيًا ، كما يؤدي إلى إفراغ الإنسانْ من إنسانيته تمهيدًا لتحويله إلى وحش يلتهم الآخرْ الذي يختلف عنه.
والممعن في واقعنا يجد أن مجالات المعرفية التي يفترضْ أن تكون أكثر نقاءً من غيرهَا ، قد اجتاحها الوباءْ كما يحدثْ في الأدب الذكوري في مقابل الأدب النسوي ، حيث تريد الذكورة أن تلتهم الأنوثة ، والأنوثة تريد إلغاء الذكورة وكما يحدث في الإسلامي مقابل العلماني ، حيث يخدش الآخر المختلف عنه بغرض إقصائه وتشويهه.
إنَّه مشهدٌ صادمْ يعكس التطور السلبي الذي أنتجته العصبية العمياءْ والأيديولوجيَا القذرة التي عجزت على تلبية متطلبات الإنسان المعرفية والنفسية والاجتماعية وتوحيد الذهن حول مفهوم إنساني واحد ، بقطع النظر عما نختلفُ حوله و عليهْ ، فالناس خلقوا ليتآلفوا بسبب اختلافاتهم وتمايزهم.
للأسف الشديد لازلنا في بلادنا العربية والإسلامية لم نتجاوز بعد هذه الثنائيات المتطاحنة التي أفضت إلى معارك بليدة وقاسية في سبيل إلغاء الآخر ، ولعل هذا الاستمرار في تبني الفكر الإقصائي و الإلغائي ورثنَا وسيورثنَا – ما لم نكف عنه - حقبة عنيفة وصادمة ولعل التجربة مريرة بالنسبة لنا كجزائريين في هذا الخصوص.
إذًا السبيل الوحيد للخلاص هو الاعتراف بوجود فعل إنساني خالص ، والكف عن الطعن في الوظيفة البشرية للناس وتعبيد الطريق نحو تقبل الآخر المختلف وإيجاد عوامل مشتركة بين مختلف التوجهات الفكرية والعقدية لصالح النقاط المشتركة التي هي كثيرة ، دفعًا لعجلة المصالحة الإنسانية التي تهدفْ إلى تمجيد الإنسانْ بقطع النظر عن ميولاته ، لأن الحياة تقوم على الاختلاف والتنوع الذي لا يقلل من الاجتماع البشري والإنساني تحت راية الإنسانية في صميمها وفي أعمق معانيها.
* كاتب وشاعر جزائري ، ماجستير علاقات دولية ودبلوماسية