عائلة المُنتحر ( قصة قصيرة)
بقلم / مجدي غرسان *
بعد حصوله على جائزة دولية عالمية ،بدأت الأنظار تتوجه إليه .. يتلقى الدعوات للمشاركة بالمؤتمرات، وترجوه المؤسسات الثقافية المختلفة أن يقبل مهمة التحكيم في مسابقاتها .من خارج البلاد .. المشكل أنه لا يستذع السفر لقلة حيلته ولم يعلم أنه سيصادف أسباب أخرى
المحطات الفضائية العربية غدت تتسابق؛ كي تحظى بلقاء معه مقابل مبالغ ضخمة جدا،
لقد كان صاحب هم عندما أراد أن يسطر اسمه في سجل العظماء ولكن كان هم الفقر يغلب على إبداعه المنقطع
لكنه رغم ذلك يملك القوة والإرادة والتي قد تجعل منه الرجل القادر على دفع الثمن فقد كان يستطيع كظم غيظه أمام أي إنسان مهما عظمت قدرته الاستفزازية مثلما كان يستطيع أن يسيطر على غضبه في أشد المواضع
الغريب أنه ظل في بلده أسير لعلمات الاستفهام حاول حاسدون نثر بعض الأتربة السوداء على الثوب الأبيض إلا أنه بحلمه وحكمته كان قادراً على نفضها وكان قادراً على احتواء المشاعر السلبية الموجهة ضده من بعض زملائه في مهنته ورغم نشأته الريفية التي جعلت منه شخصا فائق المشاعر !!
كان أميناً ، سمح الطباع، سخيّ العطاء،سليم الفطرة ، وفي عمق تفكيره يدفع المحيطين إلى الاستنارة برأيه ومقولته.
ومن البديهي أنّ لمثل هذا الشخص نصيب في الاهتمام بالفن والأدب فقد أتقن عزف البيانو وغيرها من الفنون .ولم يترك لنفسه البقاء على حالة الأنصاف
يُخفي الزمن الكثير من المفاجات لا يستعد لها شخص بإرادته .
فحق عليه مقولة الشافعي ؛
وأحق خلق الله بالهم امرئ ذو همة يبلى برزق ضيق
كان ينشد المثالية في كل شيء بقدر ما يستطيع، وأحيانا لا يستطيع فيعود ويستغفر ويتألم للهزيمة، ثم يحاول مرة ومرة حتى أدرك أن الخطأ ضرورة حتمية .. وحين أعلن الحرب على كل ناقد متفرج وانطلق لكي يبدل وينتج ويقدم وينهض بما لديه كواحد من مئات المبدعين ، لم يجد حقيقة تلك الجوائز وتلك المكرمات سوى أن يضعها على جدار ضيافته
وبعد وساطات متعددة وإلحاح متواصل حصل على عمل مؤقت في إحدى دوائر الدولة براتب ثانوي، يعينه على أكمال حياته فلم تكن هناك اعتمادات مالية من أجل الشهادات العالية
كان يريد أن يشع نور المجد من أرض وطنه ومن ترابه الغالي تقع رغباته بين التاريخ والطموح يحاول جاهدا اقناع نفسه بأن ثمة أمل ينتظره
يدور بداخله سؤال الخوف الوحيد عن تلك الموارد الضخمة أين ذهبت؟ يستعيذ بالله من جواسيس الزمن ومرتزقة الأخبار .. يعيد ترتيب هندامه داخل المقهى ويلتفت هل سمع أحد ضميره ، هل ثمةجواسيس يمكن أن تفسر
نواياه ..
الشتاء الخامس يمر وهو لازال في روتينه المُعتاد ، تُحيط به أصوات البشر والحجر والحياة حوله مجرد خيال وفي ليلة صامته يأتي لشاشه التلفاز وحلقة تلفزيونية يرى فيها لقاء مع رجل يتحدث ، مذيع أخبار في القناة الاخرى وراقصة في الفاصل الاعلامي
وفجأة
شريط يظهر بعنوان الحلقة (هجرة العقول)
لحظة غضب سادت محيط غرفته تأبى فطرته السليمة أن تكمل تلك الحلقة، يقفل التلفاز ويخلد للنوم يعود فيفتح التلفاز ، يستمع للحلقة كاملة
تختمر الفكرة في رأسه تماما
أصبح يرى ذاته هناك في البعيد .صراعات نفسية واستفهامات خرساء قادته إلى الحيرة التي لاتبرر رحيله إلى غربة معنوية ومكانية عن بلده جعلت منه ذلك الشاب الغريب بين أهله .
لاشيء يعني له شيء .... أنهار العراق أصبحت زرقاء من حبر الكُتب ، والوطن لم يعُد يسمع من دوّي الطبول والأعراب الذين يجيدون تصفيف الكلام والمديح هم الاولى بالمشورة ! امن في داخله أنه هناك أمور لا يمكن الحصول عليها إلا إذا الحق الضرر بالبعض . وهكذا تنشأ في حياتنا العدوات
وفي لحظة يحضر في ذهنه والده ووالدته اخوته وصحبه ينتظر الصباح يتجه للمطار .. في كاونتر السفر يصادف شخصاً يقول له أنت ممنوع من السفر يقف عاجز عن الكلام يعود للشارع وتمر ساعات وفجأة .. صوت أطلقه شيطان أخرس وموكب سُمعت أجراسه من بعيد وأصوات تنادي الشرطة
.. مجنون انتحر مجنون انتحر ..
انتقل لمثواه الاخير .. يٌشيع أهله وذويه جثمانه والتُربي الذي حفر قبره ينادي في الجميع بمسامحته ، مذيع السُلطة يبحث عن والده في محاولة ليسألة عن شعوره بالضغينة لكونه لم يبقى على قيد الحياة مراعاة لسمعة القبيلة ليس إلا ....
* كاتب و قاص
5 pings