ادفعْ ريالاً تَقطَعُ ذِراعاً ..!!
بقلم الأستاذ / أحمد النجار *
تخيلوا معي -من فضلكم - غُرفة بيضاء نظيفة مُعقمة مُجهزة بكل ماتحتاج إليه العمليات الجراحية من أحدث الأجهزة والمعدات الطبية المتطورة وفي الغرفة مباضع جراح ومجموعة من الممرضين والممرضات المدربين تدريباً عالياً على المساعدة في إجراء العمليات ومعهم مجموعة من الأطباء الاستشاريين على درجة عالية جداً من الكفاية مع طبيب تخديرٍ محترف - لايفوقه احترافاً إلا إعلامنا العربي - وفي منتصف الغرفةِ سريرٌ أبيض وعلى السرير طفلٌ ممددٌ عمره لايتجاوز الخمس سنوات وفوق رأسه نورٌ ضخمٌ ذو خمسة مصابيح .
وبجواره منشارٌ طبي متقدمٌ جداً ومتطورٌ للغاية ويعمل مستعيناً بجهاز الحاسوب للتقليل من نسبة الخطأ , فتحتِ أو فتحتَ أنتَ بابَ هذه الغُرفة واستقبلك الجَمعُ الموجودُ فيه ورفعوا لكَ المنشار وطلبوا منك بترَ يدِ الطفلِ من الكتفِ لأنها وصلتْ مرحلةً متأخرة من (الغرغرينا Gangrene ) ولو لم تُبترْ الآن لنتقلتْ لبقية أجزاء الجسم !!
أسألكم الآن : ماشعوركم في لحظةٍ كتلك ؟!!
حتى ولو كان ماستقومون به هو لمصلحة الطفلِ ذي الخمس سنوات إلا أن الأمر مؤلمٌ جد مؤلم .
لنخرج الآن - بعد إذنكم - من غُرفة العمليات ولنمر سريعاً على الصدقة فما منا من لايعلم أن الصدقة لها فوائد لايعلمها إلا من فرضها علينا ، فالصدقة تُطفيء غضب الرب ويطلبُ بها شفاء المريض وتَمنعُ - بإذن الله - من ميتة السوء وهي سببٌ للبركة والوفرة والحفظ والتوفيق وطريقٌ عظيمٌ للدعوة إلى الله .
ولكن ماعلاقةُ الصدقة ببتر يد الطفل ذي الخمس سنوات ؟ !!!!
نشاهد في كثيرٍ من الأحيان الكثير من المتسولين رجالاً ونساءً وأحياناً يكون معهم أطفالٌ صغار ، بعضهم إما فاقد للبصرِ أو لبعض أطرافه أو مصاب بمرضٍ غريبٍ إما في عقله أو في بدنه ، يستخدمون عبارات مُتقنة و مصحوبةً أحياناً بدعوات حارة للتسول!!
فنشعر باجتياحٍ غريبٍ لمجموعة من المشاعر منها الرغبة في الصدقة وإرضاء الرب ومنها الشفقةُ على هذا المخلوق المسكين الضعيف ومنها أيضاً ردةُ فعلٍ نفسية طبيعية لاشعورية ذات شقين :
الشق الأول :
أن يتخيل المتصدق نفسه أو من يحب في هذه الحالة , وهنا تحديداً يقع الكثير في هذا الخطأ فمثلاً من يعمل في جمع المهملات - أكرمكم الله - قد يكون مسروراً بهذا العمل ولايحتاج منا إلا بعضاً من اللطف الغير مبالغ فيه حتى لانتسبب بجرحه من غير أن نقصد ولامانع في مد يد العون له ولكن ليس بطريقة تجعله يشعر أنه متسول وليس صاحب مهنة شريفة عفيفة هي أفضل ألف مرة من منصب مديرٍ عامٍ ومختلس !!
فلا يجب أن نضع أنفسنا مكان أحدٍ - أي أحد - لأن الظروف تختلف اختلافاً كلياً من شخصٍ إلى آخر..!!
الشق الثاني :
شعوره بالذنب وبالذات إذا كان مبذراً ومُسرفاً ينفقُ بغير تفكير ، كل هذه المشاعر المُختلطة تدفعُ يدها أو يده إلى حيث هو المال معه فيخرج منه بعضه ويمده لهذا المسكين!!
تقبل الله منكِ ومنكَ وجزاكم الله خيراً وجعلها في موازين حسناتكم ..
ولكن !! أتعلمون أن هذا المسكين أو تلك المسكينة قد يكونون جزءاً من شبكةٍ إجرامية منظمة ؟!! هل تعلمون أن هناك حفنة من الجبابرة منزوعي القلب والدين والإنسانية يقفون خلفهم ؟!!! هل تعلمون أن ما أعطيتموه لهم سيذهب لهؤلاء ؟!! وأنهم لن يحصلوا منه إلا على الفتات من طعامٍ لايصلح للحيوان فضلاً عن الإنسان وشراب آسنٍ ومأوى قذر ؟!!!
هل تعلمون أن معظم الأطفال هم أطفالٌ إما لقطاء أو اختطفوا من ذويهم ، وأنهم يتعرضون لعمليات تشويه متعمدة عن طريق إتلاف بعض أطرافهم أو بترها أو فقء أعينهم أو التسبب لهم بمرضٍ عضوي أو ذهني عضال بطرق وحشية جداً جداً جداً ؟!!!
هل تعلمون أن هؤلاء النسوة يتعرضن للتعذيب والاعتداء الجنسي بوحشية وعنف والاغتصاب والمتاجرة بأجسادهن بعد عودتهن من عملهن هذا المُضني والشاق ؟!!!
وهل تعلمون أنه في حالة رفض طفلٍ أو امرأة أو رجلٍ للعمل أو تقصيره حتى يتعرض للتعذيب الشديد المكثف وقد يُقتل أحياناً وتُقطع جُثته ويُدفن ولايعلم عنه أحد ؟!!!وهل تعلمون أنكم بهاتيك النقود التي أعطيتموها لهم إنما أنتم ساهمتم بشكلٍ غير مقصود- وبحسنِ نية طبعاً - في إنعاش هذه التجارة القذرة المُحرمة وساهمتم في إطماع هؤلاء وفي جمع المزيد من الأطفال والنساء ؟!!!!!
الأجهزة الأمنية ومكافحة التسول لديهم من القصص ما يجعل الولدان شيباً !!!وقد سمعت بنفسي بعض هذه القصص المؤلمة من مصادر موثوقٍ بها ورأيت بعضها بأم عيني!!!
قد يسأل سائلٌ ماتصنعُ بهذا الحديث :عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال رجل : لأتصدقن بصدقة ، فخرج بصدقته ، فوضعها في يد سارق ، فأصبحوا يتحدثون : تصدق على سارق ، فقال : اللهم لك الحمد ، لأتصدقن بصدقة ، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية ، فأصبحوا يتحدثون : تصدق الليلة على زانية ، فقال : اللهم لك الحمد ، على زانية ؟ لأتصدقن بصدقة ، فخرج بصدقته . فوضعها في يدي غني ، فأصبحوا يتحدثون : تصدق على غني ، فقال : اللهم لك الحمد ، على سارق ، وعلى زانية ، وعلى غني ، فأتي : فقيل له : أما صدقتك على سارق : فلعله أن يستعف عن سرقته ، وأما الزانية : فلعلها أن تستعف عن زناها ، وأما الغني : فلعله يعتبر ، فينفق مما أعطاه الله .
فأقول : هذا الحديث تحديداً ومثله قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: والله إني لأعطي السائل ولو كان راكباً على جوادٍ مطهمٍ - على صدره - بالذهب ... أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه - هذا الحديث - يضبطه ترتيب المصالح ودرء المفاسد فهذا سائلاٌ أو سائلة وليس عملاً إجرامياً منظماً بشعاً وحشياً شرساً ...
{ وأما السائل فلا تنهر } هذه الآية ليس فيها أمرٌ بالعطاء ولكن فيها أمرٌ بعدم نهرهم وردهم بالمعروف إن لم تكن ترغب في التصدق عليهم .
لمحة نفسية :
هم يعتمدون على سياسة الإلحاح والمتابعة حتى تعطيهم مللاً منهم وطلباً للتخلص من إلحاحهم وهنا - ونفسياً - داوها بالتي كانت هي الداء ..
أولاً اقطع تماماً التواصل بالعين معهم The connection of eye
ثم تجاهلهم تماماً وتلفت حولك وأنت واضعٌ على وجهك لمحة لامبالاة وعدم اكتراث وتحدث مع من معك أو بهاتفك المحمول ...لحظات وسوف ينصرفون ثق بي!!!!
وختاماً أقولُ : في نظري أن من أصر على أن يدفع لهم وهذه حالهم فهو سيكون قد بتر ذراع وأطراف ألف طفلٍ وألف امرأة وبفأس صدئ وفي غرفة قذرة ودون طبيب تخدير خارج تلك الغرفة التي تخيلتموها في بداية الموضوع ودون وجود حاجة لذلك !!!!
* مستشار نفسي واجتماعي
1 ping