اتبعْ شَغَفَك
يقلم الأستاذ / أحمد النجار *
ما سأكتبه الآن سيخرجُ عن المألوف لدى الكثير عن الموهبة , ولكنه يظلُ رأياً أنا مؤمنٌ به أشد الإيمان , ويظلُ كذلك صواباً يحتملُ الخطأ ومايُخالفه خطأ يحتملُ الصواب ..
بدايةً أكادُ أُجزِمُ أن الكثير من المواهب في عالمنا العربي تعرضت لعمليات وأدٍ مقصودة أو غير مقصودة , وكثيرٌ منها تم اكتشافها ثم وأدها لأسبابٍ ينسبها البعض إلى الدين , لأسبابٍ سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية ...!! , وكثيرٌ منها لم يتم اكتشافها من الأساس , لغياب القدرة على الملاحظة الذكية حول صاحب الموهبة , أو لاعتماد مقاييس غير صحيحة لتحديد الموهوب من غير الموهوب ..!! , هذا ولو أضفنا إلى أنه قد يكون الكثير ممن أُنيطَ بهم البحث عن المواهب وتنميتها وتوجيهها هم ليسوا أهلاً لذلك البتة , فبعضهم تم اختيارهم لتميزهم في مجالِ عملهم المحدود والذي لاينم للموهبة ولا للذكاء بصلة , وبعضهم تم اختيارهم ضمن معيار الواسطة والمحسوبية المُقدس لدينا في عالمنا العربي , فهم بذلك لن يستطيعوا اكتشاف المواهب الحقيقة ولا تطويرها ولاتنميتها , ولايملكون إلا قدرةً محدودةً على حفظ بعض النظريات حول الموهبة ومحاولة تطبيقها بشكلٍ قد يكون غير سليم في كثير من الأحوال ..!!
في ظني – ولعلي أكون على خطأ – أننا لكي نستطيع اكتشاف موهبةٍ ما , لابد – بدايةً – من معرفة ماهي الموهبة , بشكلٍ مبسط وواضح , يجعلُ من السهلِ على أي شخصٍ اكتشاف أن الشخص الذي أمامه يملك موهبةً ما , ثم يبدأ في محاولة تنميتها وتطويرها أو الاستعانة بأصحاب الخبرات في هذا المجال , أما النظريات والحسابات التي تعتمد على قوانين وحسابات من الصعوبة بمكان , فهي تجعل اكتشاف الموهبة أمراً لايستطيعه إلا المُلم بهذه القوانين وهذه الحسابات , وبذلك تضيق دائرة القادرين على اكتشاف المواهب , ويقلُ عدد المواهب المُكتشفة تبعاً لذلك ..
وسأبدأ الآن – بعد كريم إذنكم – في وضع أولى المعالم في الطريق نحو اكتشاف المواهب , وهي : لابد من التفريق بين القدرة والمعرفة والمهارة والذكاء والموهبة ..
وأستأذنكم في وضع التعريفات الخاصة بي والتي قد تختلف مع التعريفات التي موجودة في أذهان الكثير أو قد تتفق معها , وذلك بأسلوب مبسط ميسور كما اتفقنا سابقاً ..
وثاني المعالم , هي لابد أن نعلم علماً يقيناً لايخالجه شكٌ بأن الله – جل في علاه – عادلٌ حكيم , وحاشاه – سبحانه – أن يُخرجَ للدنيا أناساً بميزاتٍ ويحرمُ منها الآخرين , إلا ماكان اصطفاءً منه - سبحانه وتعالى – كما في الأنبياء والرُسل , قال تعالى : { الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور } وحتى هذا الاصطفاء قد يكون مبنياً على امورٍ علم الله – سبحانه – أنها ستكون في هذا المُصطفى فاختاره واصطفاه والله أعلم ..
ولكن ماعادا ذلك فهو وبلا شك – عندي على الأقل – يتساوى فيه جميع البشر وبلا استثناء ..
ولكي يتضحُ الأمر أكثر نعودُ للمعلم الأول , وهو الفرق بين القدرة Ability والذكاء Intelligence والمعرفة Knowledge والمهارة Skill والموهبة Talent .., وهنا يحدث كثيرٌ من الخلط واللبس الذي يفقدنا القدرة على اكتشاف الموهبة وتحديدها , فالقدرة – وإن كانت هي الطريق لتنمية الموهبة والارتقاء بها – غير الموهبة , فكلُ البشرِ – في ظني – يولدون بنفس القدرة على التعلم – حتى ذوي الاحتياجات الخاصة منهم – ولكنهم يختلفون فيما بينهم بدرجة هذه القدرة فيما بعد , ويحكم ذلك البيئة والتربية ونوع التعليم بما في ذلك عناصر التعلم من أشخاصٍ ووسائل وإمكانات ودافعية وغير ذلك ... , وذلك – على الحقيقة - يعود وبدرجةٍ كبيرةٍ لحكمة الله سبحانه وتعالى ولأن كلٌ ميسرٌ لما خُلِقَ له , ولكن القدرة نفسها لاتختلف من شخصٍ إلى آخر , وقس على ذلك كل القدرات عند البشر ..
أما المعرفة , فهي المستوى الأول من القدرة على التعلم , فالمعرفة نستطيع اكسابها لأي شخصٍ يملك القدرة , وبما أن كل شخصٍ يملك القدرة فكل شخصٍ قادرٌ على المعرفة , و اختلاف كمية المعرفة التي يستطيع الشخص اكتسابها , مثلها مثل القدرة تتحكم فيها نفس الأمور التي تتحكم بدرجة القدرة .., والمعرفة هي الجانب النظري لعملية التعلم .
أما المهارة , فهي المستوى الثاني من القدرة على التعلم , وهي الجانب التطبيقي والعملي لعملية التعلم , فعندما يستطيع المتعلم نقل المعرفة إلى أرض الواقع وتطبيقها واستخدامها وتطويرها والإضافة عليها , نقول أن هذا الشخص قد اكتسب مهارةً ما , ونستطيع عبر وسائل مختلفة أن نصل بهذه المهارة إلى درجة الاحتراف مروراً بالتمكن ثم التفوق ثم الاحتراف , وهنا لايزال جميع البشر متساوون ولافرق بينهم , ويحكم ذلك نفس الأمور التي تحكم القدرة والمعرفة ..
أما الذكاء – ووافقوني أو اختلفوا معي فلن أتنازل عن اعتقادي الجازم هذا – الذكاء ليس فطرياً البتة , وكل البشر يولدون بدرجة واحدة من الذكاء تحوي غرائز فطرية موجودة في الجميع , ولافرق في ذلك بين مولود جاء من أبوين ذكيين أحدهما أو كلاهما , أو العكس , وعلى الرغم من الأبحاث والدراسات الكثيرة التي قراءتها حول هذا الموضوع إلا أني مازلتُ مصراً على فكرتي ولم أقتنع بها تماماً ..!!, فالذكاء مكتسبٌ يكتسبه الشخص عبر عوامل وظروف عديدة تختلف في قوتها وضعفها من شخصٍ إلى آخر مما يُسبب اختلاف درجة الذكاء من شخصٍ إلى آخر , فلا يوجد إنسان مولود ذكي وآخر مولود غبي البتة .., ولكن الذكي تعرض لمجموعة ظروف زادت درجة ذكائه والثاني تعرض لمجموعة ظروف لم ترفع درجة ذكائه ..
أما الموهبة – وهنا بيت القصيد – فهي وعلى الرغم من أنها هبةٍ من الله لكل شخصٍ بلا استثناء , فكل مولود – أياً كان – مولودٌ وقد وهبه الله موهبةً ما , فالله عادلٌ سبحانه , ولكنه – سبحانه – ولحكمة بالغةٍ عنده , جعلَ هناك تنوعٌ شديدٌ في المواهب , فجعل لهذا موهبة صوتٍ عذب , وهذا قدرة على الرسم , وهذا قدرةً على النحت , وهذا قدرة على استخدام آلة موسيقية ما , وهذا قدرة على مزاولة مهارةٍ رياضية ما , وهذا قدرةً على التحليل والاستنتاج , وآخر قدرةً على نظم الشعر , وآخر على التمثيل , وآخر على الحظ , وآخر على الفك والتركيب ...... إلخ ..
ولاعلاقة مباشرة بين كل هذا وبين القدرة على التعلم والمعرفة والمهارة والذكاء , إلا أن هناك علاقة غير مباشرة عندما نريد تطوير هذه الموهبة وتنميتها وصقلها , وأيضاً يحكم هذا نفس مايحكمه عندما تحدثنا عن كل عنصرٍ على حدة ..
فقياس درجة الذكاء ليس دليلاً على الموهبة إطلاقاً , بل هو دليل على أن هذا الشخص تعرض لظروف إيجابية زادت نسبة ذكائه , ولامهارة الشخص في العلوم أو في الرياضيات لها علاقة بالموهبة لا من قريبٍ ولامن بعيد إطلاقاً ..
واعتماد مكتشفي المواهب على هذه المقاييس السابقة هو ماسبب عدم اكتشاف الكثير من المواهب الحقيقة , وتجد أن من يُشارُ إليهم أنهم أصحاب موهبة , هم على الحقيقة لاموهبة عندهم , بل هم أصحاب قدرات عالية بسبب ظروفٍ معينة ..
الموهوب هو من يملك منحةً ربانية من الله جل وعلا , تظهرُ جليةً منذ نعومة أظافره , أو قد تتأخر إلى وقتٍ تتفجر فيه كما حدث مع البعض أمثال نوابغ العرب المعروفين كالجعدي والذبياني وغيرهما ..!!
ولآننا – أحياناً – كثيرةً لانريدُ أن نُشير لطالبٍ أو طالبة مهملٍ أو في دراسته على أنه موهوب أو موهوبة , فإننا نبحث عن الموهبة بين المتفوقين دراسياً فقط , وهذا خطأ يصلُ إلى درجة الغباء .., فكما أسلفتُ سابقاً فلا علاقة للذكاء بالموهبة أبداً ..
وأنا أشارك بذلك العالم ( لانج وايكوم ) الذي يقول :
(الموهبة قدرات خاصة ذات أصل تكويني لا ترتبط بذكاء الفرد , بل إن بعضها قد يوجد بين المتخلفين عقلياً ) وأشارك العالم ( كارتر جول ) والذي يقول عن الموهبة : ( القدرة في حقل معين , أو المقدرة الطبيعية ذات الفاعلية الكبرى نتيجة التدرب مثل الرسم والموسيقى ولا تشمل بالضرورة , درجة كبيرة من الذكاء العام ) ..
وخلاصة القول :
ضعوا مقاييس الذكاء جانباً , وهلموا ابحثوا عن أصحاب المواهب الحقيقية وليس أصحاب القدرات , أبحثوا عن طالبٍ موهوب في التحليل الرياضي , وآخر موهوب في النظم , وآخر موهوب في كرة القدم , وآخر موهوب في الرسم .., وكم وددتُ أن أقول وآخر موهوب في العزف أو التلحين أو التمثيل أو النحت لولا اعتبارات بعضها دينية وبعضها منسوبٌ للدين ..!! حتى ولو كانت مهارات في الميكانيكا أو الحدادة أو النجارة أو السباكة أو أعمال السباكة والبناء .., ولاتهملوا الماهرين في الرياضيات والعلوم وأصحاب درجات الذكاء المرتفعة فهم أيضاً مادة خصبة للكثير من المواهب .., وهذا مايخرج الموهبة من اختصاص التعليم , ويجعلنا نطالب بهيئة مستقلة للموهوبين تلتقطهم وتصقل مواهبهم وتطورها وتنميها ..
همسة للموهوب :
أنت إما تعرف موهبتك أو لاتعرفها , فإن كنت تعرفها فلا تتوانَ في تطويرها وتنميتها وإظهارها وصقلها والاستفادة منها , وشارك أسرتك في ذلك - وأعانك الله إن كانت موهبتك من المدرجة في القائمة السوداء كالموسيقى وغيرها - , أما إن كنت لاتعرف موهبتك , فإليك الطريقة المضمونة لاكتشاف موهبتك :
اتبعَ شغفك ..
لاحظ نفسك , ستجدُ أنك شغوفٌ بأمرٍ ما دائماً , فمثلاً أنت شغوفٌ بالمحركات وطريقة عملها , فاتبع شغفك , فقد تكون ميكانيكياً ومصمم محركات موهوب , وقس على ذلك في أي أمرٍ تجد أنك شغوفٌ به ..
فالموهبة تحاول دائماً أن تظهر وأن تطل برأسها وهذا يُترجَمُ شغفاً بأمرٍ ما ..!!
كن واثقاً أن الموهبة لايمكن تعلمها أبداً , فلا تضيع وقتك في محاولة تعلم موهبة لم يمنحك الله إياها , وسخر جهدك وطاقتك في رحلة اكتشاف موهبتك الحقيقة ..
وختاماً : اتبعْ شغفك , ولاتتبع شغف غيرك , فشغفك موهبتك وشغف غيرك موهبته هو ..
* كاتب