بابٌ و كتاب
قصة قصيرة للكاتبة / خولة سامي سليقة *
أحبّه و لعلّ فعل الحبّ عادةٌ تكسر و تنسى، قد تُقتلُ أيضاً. بين أصابعي جمرٌ أقبض عليهو أندب.
استلقى على فراشٍ قاسٍ يريح ظهره المطهو بعد الوقوف الطويل، لم يبدّل ثيابه بعد، يرنّ الهاتف يهرع جسداً و روحاً يتسابقان. على الكرسيّ الهزاز في زاوية الغرفة يرخي قدميه، أسمع لهاث أنفاسه.
مسكين أصبحنا ثقلاً حقاً. كان عليّ أن أطيعه و أتخلص من حملي الأخير. يكفينا ثلاثة.
أستغفر الله أستغفره. في رأسي شيطان ندم.
أبتسم ألمحه بطرف عيني يبتسم. حياتي ما أحلى ابتسامته. عساها سعادة الدنيا و الآخرة.
تبكي الصغيرة تملأ تلافيف دماغي ببوقها، أخطف نفسي أتناولها من مهدها، أضعها حضنه يجفل. أبتسم معتذرة أتركها و أمضي.
باب باب، تكرّر بصوتها المبحوح.
أضحك. أحضر لها كتاب الصور الكبير. لن تهدأ قبل أن تفتحه لها و تحكي لها شيئاً عن الصور داخله. أرجوك حبيبي.
تأخرتُ أعدّ الطعام حتى غفت في حضنه الصّغيرة، كتاب الحكايات على المنضدة قربه، غارقاً في هاتفه حتى الغيبوبة. تناولتها من حضنه إلى سريرها دون أن يلتفت إليّ.
لم يتناول غداءه بصورة اعتيادية. ساهمٌ مرتبكٌ ضائع النظرات. قفز عن المائدة فجأةً نحو غرفة المعيشة، لم أسأله شيئاً. لعلّه نهض يشعل سيجارة. عاد إلى التدخين بعد هجره سنوات عشر.
مازحته مرات حول حريق الصحة و الجيب لم يبد استعداداً لمناقشة الأمر. تأخر و الأطباقُ تبرد. لحقته على جنبي الصغرى ألقمها رضاعة الحليب، تموء إذا ما سقطت من فمها، كان قد قلب الغرفة رأساً على عقب، لم يترك كرسياً مكانه، حرّك السجادة الأرضية، نبش كتاب الصور مرة بعد مرة. تقابلت عينانا فأوضح:
سقط مني شيء، ورقة أقصد. بل ظرف صغير جداً. بينما كنت أقرأ للصغيرة.
إن كان الأمر قابلاً للتأجيل دعه. بردت الأطباق. سأهتم بالأمر. نكمل طعامنا قبل أن تنهض الطفلتان و أنشغل.
كنت أحادث جبلاً لا يتحرك. استمرّ يقلب محتويات الغرفة و كل ما يمكن أن يفتّش. استدرت تاركة إياه ينبش روحي المفرّقة على دروب غموضه. ابتلعت لقمتين ثلاثاً، رحت أجمع مائدة لم يمسّ معظمها، كأن شيئاً لم يكن تجاهلت إحساساً يصلني عدد ساعات النهار. صمتّ.
ساعة فقط. جرس الباب يرنّ مسعوراً بلا توقّف.
تلقفني وجه سعيد ابن صاحب البقالة آخر الشارع. لهاثه المحموم أخرج كلمات غير مترابطة:
حارس البناية. بيتك الثاني يغرق ماء و يفيض على الجيران. الحق عمو أبو سلوى. لم تترك المفتاح للحارس كعادتك.
واقفاً خلفي و الصمت يملأ فضاء البيت. مات الصغار. مات الوقت. ماتت الكلمات.
لم أعر انتباهاً لكيفية خروجه من المنزل طائراً بلا وعي، اتجهت صوب سرير طفلتي، تأمّلتها و قد انسلّ من فروج أصابعها مفتاح صغيرٌ. عاد صوتها المشاغب يباشر عقلي كما كانت تكرّر في حضن والدها: باب.. باب!.
* كاتبة ، قاصة