الغراب والطاووس
تائه يبحث عن المثالية
بقلم الكاتب / صالح هليل *
لعلّكم تتذكّرون تلك القصّة التي سمعناها صغارًا، وفهمناها كبارًا، ولكنّنا ما وعيناها الساعة. تلك الحكاية التي تحكي عنّا جميعًا؛ نرى أنفسنا غربانًا سود، فننظر إلى الآخر على أنه طاووس ملون بديع. وفي محاولة منّا لتقليده، تضيع منا ذواتنا الأصيلة، فنصير غرباء عن أنفسنا..
استوقفني كتاب جميل لإبراهيم الفقي – رحمه الله - : "قوة التحكّم في الذات"، وما يثيرني في عنوانه أنّنا بالفعل نحتاج قوّة نتحكم بها في ذواتنا، هذه التي تميل وتزيغ عنّا في كل حين، وكان الله عليمًا بها، فقال لنا ناصحًا: "وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا"[1]. وتحدث الفقي في هذا الكتاب عن المصادر الخمسة للتحدث مع الذات، والتي عدّها مهمّة للغاية في علاقتنا بذواتنا.
وأرى أنّ هذه المصادر هي ما يؤسّس علاقتنا بمحيطنا وأنفسنا. أي إن خللًا في إحداها يدفعنا إلى أن نكون "غرابًا غريبًا" نسي ذاته في محاولته الجاهدة لتقليد طاووس.
ولن أتحدّث في هذا المقال عنها جميعًا، ولكنني أخص أهمّها –في عصرنا الحاليّ –بالذّكر والتحليل، وهو الإعلام وكل ما يدخل في خانته من وسائل التواصل الاجتماعي، الأفلام والبرامج.. من خلال بعض الملاحظات التي استوقفتني، وجعلتني أكتب مقالتي هذه. وهنا أطرح هذه الأسئلة بداية: هل فعلًا يؤثّر الإعلام في علاقتنا بذواتنا؟ وإلى أيّ حد؟ وكيف نستطيع التحكم بذواتنا فلا نتأثر بكل العوالم الخارجية المحيطة بنا؟
طائر تائه:
جميعنا نبحث عن ما يسكن ذاك الشغف، تلك الأسئلة التي تسائلنا كل حين.. ولكننا نبحث عن الأجوبة في المكان الخاطئ دائمًا.
حسنًا؛ لنتحدث قليلًا عن هذا التيهان، وأبرز شيء أستطيع أن أقرنه به، هو: القدوة.
كلنا نبحث عن شخص نقتدي به، جارك الثري، ربما أخوك الذكي، أستاذك المثقف أو عالم عظيم.. لعله كاتب عاقل؟
ماذا لو كان مطربًا مشهورًا؟ ممثلة جميلة، أو عارضة أزياء رشيقة.. للأسف نتخذ أمثالهم قدوة لنا وأغلبهم لا يمتلكون شيئًا يذكر.
أصْدقك لو قلت: إن معظم هؤلاء لم ينهوا دراستهم، وليس لهم إلا تلك الموهبة: صوت حسن، أو جمال خلاب. ولكل إنسان موهبة حباه الله بها، فلا طائل من أن يلهث أحدنا وراء هؤلاء لأنهم لا ينفعوننا في أي شيء.
بل وأكثر من ذلك، انتشر مؤخرًا مشجعون يذوبون حبًا في فرق موسيقية أجنبية، ونسوا قوله صلى الله عليه وسلم: "المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" فاختر خليلك الذي تحبه بعناية، وتذكر قوله تعالى: "وَالّذِينَ ْءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ".
وأنا متيقن؛ لن تكون طائرًا تائهًا لو جعلت القرآن ربيع قلبك، وعقلته. وأحسنت اختيار قدوتك في الحياة، وجعلت قلبك يحب أولياء الله لا أعداءه.
طائر منبهر:
أجل؛ كثيرون منّا منبهرون في عالم الإعلام بأولئك 'المثاليين': ذكاء خارق، وسامة، جمال، جسد ممشوق...
"أُجريت دراسة عن الشباب في أمريكا وكيف يقضون أوقاتهم، تبين من نتيجتها أن الشّباب في سنّ النّمو يقضون حوالي 39 ساعة أسبوعيًا في مشاهدة التلفاز، وإذا رأى الطّفل أنّ المطرب أو الممثّل المفضّل لديه يتصرّف بطريقة معيّنة فإنه سيقوم بتقليده حتّى لو كان هذا سلوكًا سلبيًا"[2]. وأجد هذا ينطبق على المجتمعات العربية كذلك، وإن كنت لا تتفق معي افتح مواقع التواصل الاجتماعي وانظر بنفسك.
نحن الآن نواجه مشكلة حقيقة، فمعظم شبابنا اليوم –إلّا من رحم ربك –ليس يدري عن ذاته شيئًا، وهذا ينعكس على شخصيته ونفسيته سلبًا، فيقارن نفسه بالآخرين، ونتاجًا يرى نفسه أقل وأحقر، فيسقط في موجات حزن واكتئاب ووحدة، ويرى العالم مظلمًا وكئيبًا.. ثم يسأل نفسه: ما هدفي في الحياة؟
طائر غريب:
هو شخص غريب عن نفسه، فليس يدري عنها إلا القليل، يقضي بياض يومه نائمًا وإن أفاق فإنه يقيد نفسه بهاتفه، ويراقب الآخرين، أولئك 'المثاليون' بنظره، فيحدث نفسه: "ما أسعدهم، وما أشقاني!"..
هو إنسان لم يعرف طريقه، ضل عنه والداه، لجهلهما بما يعتقده في قلبه، وضل عنه موظفو التربية: من أساتذة ومدرسين، ضل أصدقاؤه.. وصار غريبًا بينهم، فلا يجتمع بأحدهم إلا وينفصل عنه ليفتح مواقع التواصل ويتباعد عن واقعه حتى يهيم.
في النهاية: تجده كئيبًا كسيفًا حزينًا.. لا يمتعه شيء، يقلد الآخرين فلا يسعد، ولا يعرف لنفسه طريقًا للعودة.
طائر يبحث:
عليك أن تكون نفسك، ولكي تفعل؛ لا شكّ أنك بحاجة لعدة وعتاد وزاد، ولن تجد هذا عند أولئك 'المثاليين'، بل إن حاولت السير على خطاهم ضعت.
سأحاول أن أختزل لك بعض النصائح التي قد تفيدك لو عملت بها، وهي حصيلة تجربة ودراسة:
ابحث عن زاد روحك: لأن العقل السليم في الجسم السليم، ولا يسلم العقل إلا بصفاء الروح ونقائها، وهنا أؤشّر لك على علاقتك بربك. حافظ على الصلاة، واقرأ القرآن، والحديث، تفقه في دينك، واعرف الله وحدك، تفكر في نفسك وفي الكون حولك، جرّد عقلك من كل نظرية تعلّمتها حتى تتأكد من أنها صحيحة.
تحدّث إلى نفسك: سواء عبر رسائل إيجابية تخبرها لنفسك (كأن تقول: أنا ذكي، سأنجح إن شاء الله..) أو أن تتعلم الكتابة وتدمن القراءة. لأنهما سيساعدانك في فهم نفسك، وفهم الناس. وأول ما أنصحك به في هذا المشوار كتاب إبراهيم الفقي المذكور سالفًا.
حافظ على صحتك الجسدية: كما تحافظ على صحتك النفسية.
قدّر نفسك: اقتنع بما آتاه لك الله، صدقني ستجد شيئًا فريدًا بك لو بحثت وآمنت بنفسك وتعلم كيف تقنع بما أوتيت.
لا تقارن ذاتك بالآخرين: خلقنا الله بشرًا مختلفين، أنت لن تجد شخصًا يشبهك في ملامحك وجسدك مائة بالمائة، كذلك القياس في كل المناحي. لذا؛ آمن بنفسك، صدقها، قدّرها، حقّقها، وقوّها.
لا تصدّق كل شيء: أولئك 'المثاليون' ليسوا كذلك في الحقيقة، ببساطة لأن الجميع يحبّ أن يكون مثاليًا، والكمال لله عزّ وجل، فكل شخص سيحاول جاهدًا أن يريك كل شيء إيجابيّ في حياته، وقد يلفق أو يكذب أو يزوّر. لذا احتفظ بتقديرك لذاتك.
ابحث عن شيء يسلّيك: كالرياضة، الرسم.. لكل منا شيء يحبه، فاعمل عليه، لأنه سيجعلك قويًا.
وتذكّر دائمًا: الغراب قلّد الطاووس لأنه ظنّ أن الطّاووس طائر "مثاليّ".
* أخصائي اجتماعي
[1] طه، 131.
[2] إبراهيم الفقي، قوة التحكم في الذات، ص24.
1 ping