ما عادوا جيراننا أبدا
بقلم الأستاذة / خولة سامي *
قرب حافة النّهر ظلّ موعدُها اليوميّ مع ذاتها و بضعة أوهام ،لكنّها تحتاج هواء بكراً و جنينها كذلك ،تمرّر أصابعها بين طيّات شعرها القصير الكثيف الذي لجأت إلى تقصيره حدّ الكتفين فقط لتتمكن من العناية به ،بعد أن غدا الحملُ متعبا يستهلك أنفاسها ،تحدّثُ النهر طويلا ،تنظر إلى الضفة الأخرى ترقب أولئك الذين يلاعبون صغارهم كل على طريقته .
في هذا الوقت من الربيع تكثر النزهات و الجلسات الصباحية أو تلك التي تحتشد أيام العطل يجلب الناس معهم ما استطاعوا من بيوتهم أو ما قد حضّروه من أجل النزهة ،يفترشون العشب ،فوق قطعة من النايلون السميك يصفون أطعمتهم ،النمل الصغير يروح يجيء تحت أجسادهم و ما يمرّ حيا يعبر موائدَهم الأرضية دون أن يكترث له أحد، الهواء أشبه بمخدّر مركّز يجعلك تهيم عبر فكرك بلا نهاية ،و نسيمات محملة بروائح الحياة تلامس الابتسامات أحياناً و تسفع الصّمت حينا آخر .
تمرّر أناملها على قبّة رأسها ،متناسية بطنها الذي لا يبرز إلا قليلا ، ترسم فوق أطراف رأسها إشارات رقيقة و خرائط متشعبة بحركات أصابعها ،تحدّث جنينها برويّة ،تخبره عما تراه واصفة الواقفين و الجالسين على الطرف الآخر من الماء الغريب ،ذاك يحكّ بكفه جانب رأسه متأوها ،لعلّه يتنشّق صوت شهرام ناظري كما كان يفعل جارهم كلما تمدّد على الأرائك في حديقة منزله و راحت هي تلهو مع كوكوش ،كم لعبتا لعبة العروس بلا عريس في غالب الوقت ،كان والد كوكوش يحمل ما يشبه جنينا أيضاً في رأسه ،لا يكبر أو يكبر فقط في الوقت الذي يحدده الكبار .
تعصرُ بطنها بدفق من الدمع : بنيّ ،الأجنة لا تتعلق بتزاوج الأرواح صدقني ،انظر إلى الرجل المستند هناك إلى الشجرة ،يراقب لوحته من بعيد ،متأملا حركتها اللامرئية، راصدا انفعالاتها و ردود فعل الطبيعة نحوها ،لم يتغيب يوما عن مكانه على الضفة و جنينهُ لوحةٌ يحضنها بين ذراعيه مكفّنة بالأبيض ، ذلك الجالس على حافة المنحدر الصخريّ ليس وحشا ،أما شعره الأشعث ،بوهيميته ،غياب التناسق عن مشهد ثيابه، حركات رأسه ،فراغ عينيه الكبير .. هذا كلّه نصّ ،قصيدة ،بيتٌ ربما كسرَ فيه قواعدَ الشعراء و أغرق بحورهم ،ليتك يا صغيري تتذوق كلماته فتنعم بالحب الأبدي ،لم أعد أراه يلازم مكانه المعتاد ، غيره كثيرون ممن تركوا أماكنهم التي لازموها عمراً ،قد يكون في استراحة من الحبّ أو أنني أجلس معه على الضفة نفسها فلا أبصره .
بنيّ ، بنيّ .. تأمل جيدا ذا الذقن البيضاء الدقيقة ،أمامه آلاتٌ كثيرة تصدرُ ألحاناً بديعة ، هذا الرجل في الواقع روحٌ من موسيقا ،دمه علاماتٌ موسيقية ،ابتسامته تجمع التجانس الهارموني في الكون ببساطة ،من ضحكته نبت الإيقاع ،في المازورة ما كان الصوت الثامن مكررا .. كان صوته و عمر إبداعه قصيرين جداً ،مسافة ما بين قرار و جواب ..
رحلوا جميعاً ، رحلوا .
تخيّل ظل والدكَ مرّة يحاول أن يشرح لي كيف تتجاور الخطوط في المدرج الموسيقي لكنّ ذلك لا يعني لقاءها ،عن العلامة البيضاء ، السوداء ، ذات السّن ،حتى مزّقني الحزن بأسنانه التي لا تشتهي الموسيقا ،في كل مرة أحاول أن أكمل لك المشهد يا صغيري ،تفاجئني السّماء بمطر أحمر يشوّه نقاء الضفة ،يلوّث قميص والدك الأبيض ،لا أعلم لم غيّرتْ لون مائها ؟؟
أبصرُ الجميع هاربين بطريقة غريبةٍ على شكل أجزاء ،ما عاد يمكن ربما الهربُ بجسدٍ كاملٍ، ألمح النيران تبدأ من الأعلى صوب الأسفل ،و آلات تعزفُ لا تشبه تلك التي أحبها والدكَ و دلّلها طويلا بأصابعه ،لوحاتُ جارنا مع القذائف ترقص في فسحة سماوية مكتظة بالأشلاء ، أبصر ملامح أجسادهم ، ساعة هذا ،عين ذاك ،غطاء رأس تلك ،لكن والدك لا أثر له !
إشارات صمّاء يبدون أمامي ،كوكوش وحدها التي تقف باكية خلف قضبان البوابة العالية يشدها والدها من قميصها الطويل بوحشية ،يربط يديها كي تكفّ عن التلويح لي ،كأني ما عدت صديقتها و لا عادوا جيراننا أبدا ..
في غمرة الدمع صراخ شديد يستبيحُ كل موسيقا ،و حركة الممرضات تزدادُ ارتباكاً مع صوت إحداهن يخرج موجعاً : (استدعوا الطبيب المناوب بسرعة ،ضغط دمها مخيف و حالتها تزداد سوءاً ،و أنت انتزعي الوسادة من بطنها ،ثبتوا يديها لأجهّز الإبرة ريثما يصل الطبيب ) .
* كاتبة وقاصة