وشوشة بحر
بقلم الأستاذة / خولة سامي *
"هكذا خلقني الله رجلاً على صورة بحر
بحراً على صورة رجل
فلا تناقشيني بمنطق زارعي العنب و الحنطة
بل ناقشيني بمنطق البحر
حيث الأزرق يلغي الأزرق و الأشرعة تلغي الأفق
و القبلة تلغي الشفة و القصيدة تلغي ورقة الكتابة "
اسمح لنا شاعرنا الكبير نزار قباني أن نأخذ البحر منك و لو قليلاً ، البحر حين يتسع مداهُ لابد أنهُ عذابات أنثى ، آهاتٌ لها بداية و مع أنفاسنا المحمومة تتبخر نهاياتها.
إن ذلك البحر الذي كان يوماً مصدر قلق و همّ :
" و ليلٍ كمَوجِ البحرِ أرخى سُدولهُ عليَّ بأنــــــــواع الهُمُوم ليبتلي "
ثم بدا مصدر سخاء :
" هو البحر يغشى سُـرّة الأرض و يُدرك أطرافَ البلاد سَواحله "
هو عينه البحر الذي شكّلت لوحته الكبيرة موجات تهدر واحدة تلو أخرى ، بيد أنها تجيد الشكوى وشوشة إن أرادت خفوتاً ،و وشوشةُ بحر الكاتبة خالدة الثويني جاءت بنكهة فريدة ، إجادةٌ في اختيار الموضوعات الشائكة التي توجع المرأة دون غيرها كانتظار فارس الأحلام الذي يفضي إلى انتظار بلا آخر في قصة " قطار العمر " ، المشاقّ التي ترافق الإعاقة و عدم تقبل بعض فئات المجتمع لتلك الأنثى أو نبذها في " صاحبة الحذاء المقلوب " ،معاناة الأرملة في " وفاء النعناع " ،تعذّر الغفران حين يكون الخطأ ديدناً و طبعاً لا يتغير عند الرجل في قصة " مسخ " و الكثير الكثير من الجمر الذي يحرق حروف الكتابة قبل الأصابع ، لشدّ ما أثارني الإهداء الذي ورد في الصفحة التاسعة من الكتاب ( إلى من أحبطني و استمات كي لا أكون .... ) تلك أروع هدية ازدادت قيمتها مع قصة ( فُتات ) التي يريد لها الجميع أن تغدو جداراً بل للجدار فائدة ترجى أحياناً ، الحرب التي تقودها فئة ضد فئة أخرى من أجل لا شيء، من أجل أن تقول بلؤم مستفيضٍ لسنا سواء ، الصامت أحمق و الهادئ غبي و الطيب مسحوقٌ بيننا ،و تدعم رفضها لتلك الفئة التي تقوّض الإبداع بموجة سخرية أو تهدم حلماً يكاد يغدو قصراً ،في آخر كتابها ( قلت لها ) : " يمّه تراني انخطبت " فيأتيها الجواب بسيطاً واضحاً مثل طعنة " منو الكمخة تعيس الحظ ، إي الحظ للشلقة و البلقة و شينة الخلقة ! " الموت أصنافٌ و ألسنتنا ليست بمنأى عن الجريمة ، فليست كلّ الجراح تبكي دمّاً .
بين سطورها حنين إلى الماضي لغةً و حياةً و صوراً ، هروب من مجتمع شكلانيّ يقيّم الأنثى على وزنها و مظهرها فقط ، و عجلات الحضارة عند خالدة الثويني أياً كانت لن تهرس الجمال الكامن في العمق أو تعود بنا إلى حبّ مفقود ، كما في قصة "خياراتنا " و " أسطورة المساء " ، توشك أحياناً أن تبصق الحقيقة كاملة في وجه الوقت و قد تبقي الباب موارباً حقيقة أو مجازاً في غير موضع ، كما في قصة "عتمة " .
تجربة جميلة في رصد الوشوشات التي تعبرُ عند البعض بلا معنى ، لكنها وجدت صداها في حبر خالدة و بين سطورها ، لأنها ابنة البحر و قد آمنت بصدق همسه متتبعة قول الشاعر ناظم حكمت : ( ثق في الحب و في الأرض و في البحر ).
* كاتبة ، قاصة