خصلاتٌ متناثرة
بقلم الأستاذة / خولة سامي *
" مع اللغةِ لعبتُ بديمقراطيةٍ و روحٍ رياضية ، لم أتفاصحْ ، لم أتفلسفْ ، لم أغشّ بورق اللّعب .. لكنّي مسحتهُ بالماء و الصّابون " لم أكسرْ زجاجَ اللّغة
هكذا تُعاملُ اللّغة من منظور الشّاعر نزار قباني إن أردنا لها أن تعيشَ طويلاً و كثيراً، بعدهُ غدوتُ أبحثُ عنه و عنها في كلّ أرضٍ ،أشتاق الوردَ لأن الشّوك في أصابعي ، أهيمُ في السّهل و على أصابع قدميّ يحفرُ الجبلُ وجعه ،في الغالبِ صرنا جميعاً نبحثُ عن البساطةِ المشبعةِ فتنةً ،عن نصوصٍ تحفرُ دروبها عميقةً فينا بمعاولِ السّحرِ ، حتى اعتدتُ كلّما ارتشفتُ نصّاً دافئا أن أغمضَ عينيّ فرحاً .
هكذا جاءت نصوصَ الكاتبة نوف بنت عبد الله الحسين بسيطة صادقةً ، حملت عنوان " خصلات متناثرة " ، كأي أنثى راحتْ تسحبُ أردانَ الحياة ،تشدّها في نصّ "سيدتي " " لمرةٍ واحدةٍ عيشي كما ترغبين لا كما يرغبُ الآخرون " لتتأرجح كلماتُها بين فصلين من فرحٍ و حزنٍ ،حاملة في جعبتها همومَ أنثى الشّرق التي لا تزالُ ترزحُ في بقعٍ شتّى من عالمنا تحتَ وطأة ضغوطاتٍ تثقلُ كاهلها و تدمي كبرياءَها ، تحكي عن التّربية القاسيةِ و دورِها البالغ في تشويهِ المشاعر الإنسانية بين الجهلِ في توجيهها و إلصاقِ التّهم بها في نص " الحبّ عيب " ليستمرّ قتلُ المشاعرِ على يد زوجٍ تنعتهُ بالجاهلية المفرطة في "وأد فرحة " ، أنّى لهذي المرأة أنْ تردّ سهامَ الوجع و هي تعاني مخاوفَ جمّة ؛ الخوف من الوحدة ،من الزمن ، من الغيرةِ المرضيّة ، الرّحيل ، الحاجاتِ التي لا تُلبّى و ذلك في نصوص عدّة من مثل :
"وحدة " ، "عدت يا يوم مولدي " ، "بتروح لك مشوار " ،" يتم " ، " رحل " ، أما عن الخيبات فحدّث و لا حرج ،ليستْ وحدها من تعرف تلك الخيبات فما فاتها تذوّقهُ راحتْ تراهُ بارزاً في محاجر فتياتٍ مثلها ، كالانتظار اللامُجدي ، إفلاس المشاعرِ و الانكسار ،أما أشدّها قسوة على الإطلاق حبٌّ بنصفِ قلبٍ و من طرفٍ واحدٍ فقط ، و ذلك في نصوص عدة مثل :" بستناك " ، " إفلاس " ، " فراشة " " صنم " .
في خضم إطلاقها صيحاتِ العتاب في وجه الرّجل ، بدءاً بعدم اكتفائهِ بامرأة واحدة ، و حربهِ على نجاحاتِ المرأة حتى تصل إلى اعتيادهِ على الأخذ ليغدوَ عطاءُ المرأة بلا فضلٍ ،بل واجباً مفروضاً دون أن تنتظر شكراً أو تقديراً ،معيدةً أسبابَ هذا الأمر على الأغلب إلى طاقةِ التّسامح الكبيرةِ التي تتمتع بها الأنثى ،و فيض من المحبة و الكرم ممزوجين بالصّدق ، فإذا ما أحبّت غدتْ ممثلة بارعة تستغبي ليمرّ كدرُ الحياة بأقلّ الخسائر ،في نصوص مثل : "عاد " ، " بعثرة " ، " صفاء " ، "استغفال " ، لائمة بنات جنسها أحياناً لعجزهنّ عن المبادرةِ مع سلبيةٍ تأخذ صورة شخصٍ لا يتعاطى مع الحياة باحترامٍ لها ،إنّها مرةٌ واحدة تُعاشُ و تقضيها معظمُ النساء في كبتٍ للأحاسيسِ و حرقٍ لشموعِ العمر تحت ستارِ الكبرياء المقيتِ ، النرجسية ، القوة الزائفة و لجمِ
العاطفة ،منتظراتٍ أن يبوحَ الطرفُ الآخر أولاً ،أو مدعيات أنّ الحياة تكتمل بلا رجلٍ و القلوب بمقدورها أن تصومَ عن الحبّ دهراً .
لم تنسَ الكاتبة أثناءَ خوضِها في تفاصيل الجراحِ أن تشيرَ إلى أكثر الأدوية شيوعاً و نجاعة ألا و هو النسيانُ ، و ما غادرتِ البوحَ بلا تأملٍ و مناجاةٍ مع بعض التفاؤل فإن لم يكن النسيان حقيقة فلا بأس بالكثيرِ من الخيال ،زاد من يسافرون بلا سفر ، ظهر ذلك في نصوص مثل : "فنجان قهوة " ، " مناجاة " ، " غداً " و غيرها .
نالت وسائل التواصل نصيباً من نصوصها ،حين غدت لاعباً أساسياً في أيامنا و مبعثاً للكثير من المشاعرِ و مصدراً للمعلومات ،بل حلّت مكان اللقاءات الحيّة عند البعض مكتفين بخطوطٍ صمّاء لا تسمعُ أنين الشّوق مطلقاً ، لتنهيَ رسائلها إلينا و خصلاتِها بواقعية مطلقةٍ ،إذ إن الكمّ الأوفرَ من معاناتنا خُلقت على أيدي البشرِ و لا ينهيها إلا وعي كبيرٌ بحجم المسؤولية الملقاةِ على عاتقِ الطّرف الأقوى في المعادلة ، الذي لا يزال متحكّماً بمقاديرِ الأمورِ ،ضمن إطارٍ ضيّقٍ من الحريّات البديهية لكائنٍ يريد أن يأخذ حصّتهُ من سلّةِ الحبّ و الفرحِ و الحياة . تقول :
" تقف على عتبة الخصلاتِ ترفعُ بعضا منها .. و تترك بعضها مسترسلةً مع رياح الحياة "
و إنْ كنا في رحلتنا مع نوف الكاتبة فإن الشرفة الأخرى التي تطلّ منها بهيةٌ واسعة يغمرها الشذى ، هي مشرفة أكاديمية و معدة مناهج ،مدربٌ معتمد و الشّريك المؤسس لمركز تأصيل الفكر ،الأكثر أهمية مما سبق أنّها فنانة و عضو في الجمعية السعوديةِ للفن التشكيلي ،لا غرابة بعد ذلك أن نلحظ الحياة في طياتِ كلماتها نابضة " الإحساسُ يسيل لعابه "و "الدموع ساخنة " ،أنى التفتّ تنهضُ الحواس متأهبة بين السطور ؛ فهنا الرائحة " ماء الورد و رائحة العنبر ،عبق العود ، رشّة عطر " ، و هناك صوت يهزّ مشاعرك " إيقاع حياتها ،يرنّ في أذنها السؤال ، صوت فيروز ،صدى الهمس " ، أما اللّمس و الإحساس فمعَ كلّ رعشة حرف " الكثير من القبلِ و الأحضان ، لمسة الدلال ،و غيرها .... " ، لتأتي الحركة حاملةً معها بقيّة أنفاسِ الحياة كما في " تراقصُ إيقاع قلبها ، تدور في حلقة مفرغة ، تصارع قلبها المفطورَ ، تمشي على الغيوم القطنيّة .... " .
حتّى إذا ما رحت أبحثُ عن اللّون بين خصلاتها وجدتُهُ قليلاً ، و ما توقعتُ هذا ، جاء اللّونُ عندها متأرجحاً بين الرّمزية و الواقعيةِ كما في " الغد المخضرّ "
و " وريقات النعناع المخضرّ " ففي الأولى أرادت الأملَ و التفاؤلَ ، بينما في الثانية طابقَ الدّال المدلولَ نصّاً و حقيقةً ، أما اللّونُ الأحمرُ فقد ذكرتهُ في غير موضعٍ من عملها ، اللونُ الذي يتّخذُ مقعدَ الإثارةِ الأولِ حين يبوحُ بكلّ ثباتٍ متحدياً أسوارَ المجتمعِ حتّى لتسميه الكاتبة " اللّون المفضوح " ثمّ نراه يتّجهُ شيئاً فشيئاً من الطّورِ الحسيّ الصّارخِ إلى الرّغبة العاقلةِ الكامنةِ ، كما أنّها لا تنكرُ أنّه بقدر ما يشيرُ إلى الحبّ الملتهبِ إلا أنّه مخيفٌ ،تقولُ :" إلا و قد أعلنَ خطرهُ " و تصفهُ بالمبهج المبكي اللّذيذ .
إن كانت الكاتبةُ قد أهدتْ عملها إلى الكفّ الحانية التي ترأف بالأنثى ،فما ذلك إلا لأنّ الألم سيّد أوراقها ،يشعر بالنرجسية بين سطورها إذ هو الدّاء و الدواء في حيواتِ نساءِ العالم الثالث ، إنهُ المشنقةُ و القدّيس المخلّصُ لهنّ ، وردَ بكثافةٍ و في استخداماتٍ مختلفة و كثافة تكراره جعلته ضمنَ مفهوم الموتيف .
لا أخفيكم أنّي كتبت إليها أسألها يوماً : ماذا تودّين أن يعرفَ عنك القرّاء ؟ أجابت من فورها : تربوية ابنة تربوي ، قيادية ابنة قيادية ، زوجة لرجل فاضل ،
و أم لخمس قطعٍ ذهبيةٍ .
* كاتبة وقاصة
2 pings