الكتابة بالممحاة
بقلم : أ. جولان رشاد الواوي*
قبل سنوات خلَّت ، ضللنا الطريق إلى السكن الجامعي ، ثلاثة فتيات وأنا ، الشقية بخوفهن وانتحاب بعضهن ، فجأة خرجت لنا عجوز من شارع فرعي ، كان في هيأتها ما يريب ويقبض الأفئدة الصغيرة الوجلة.
بطريقة آلية ، سألناها معاً عن الشارع الذي يربض فيه السكن الجامعي، ابتسمت وهي تشير إلى الشارع الذي خرجت منه للتو خلف ظهرها، وبقيت تسد الطريق بيننا وبينه.
أستطيع أن أمنح كل واحدة منكنّ أمنية مقابل دينار ، قالت ذلك ، ولوّحت ببطاقات بيضاء بين يديها .
الكثير من الخوف و القليل من الرجاء أخرج الدنانير من الحقائب الجامعية .
إذا كانت متسولة ، كفتنا الدنانير إلحاحها، وإن أصابت بشأن الأمنيات ، لن نخسر الكثير .
قالت صديقتي الأولى :
أتمنى لو كان لي وجهاً أجمل ، أنفاً صغيراً وعيوناً ملونة ، قواماً خلاباً وشعراً غجرياً مموجاً.
مدت العجوز البطاقة وهي تستلم الثمن باليد الأخرى ، لا تقرئيها إلا في المنزل ، قالت . ولمع سنها الذهبي في العتمة.
الثانية طلبت أن تكون الأولى على دفعتها في الجامعة وأرادت الحصول على وظيفة مرموقة ، وشهرة منقطعة النظير و...
قاطعتها العجوز : فهمت فهمت ، استلمت بطاقتها مقابل الدينار .
الثالثة، طلبت زوجاً وسيماً وغنياً لا تشبع من حبه أبداً.
ولما وصلني الدور فتشت في حقيبتي فلم أجد أية دنانير ، كان معي بضعة قروش فقط ، وضعتها في يدها واستجمعت قوتي ، ثم قلت : ليس لي نصيب يا خالة ، بالإضافة إلى أنني أرضى بمواجهة الغد كما هو، مهما كان الذي ينتظرني خلف حُجبه المغلقة ، يكفيني منك دعوة طيبة أو نصيحة .
مدت لي بطاقة فارغة تماماً، ولم تأخذ القروش القليلة ، ثم انصرفت بلمحة بصر كأنها لم تخرج إلا من وحي مخاوفنا وأحلامنا.
اهتدينا في عتمة مخاوفنا إلى طريق العودة ، فهرعت صديقاتي لفتح البطاقات، كان في كل بطاقة رقم من ستة خانات ، لعنوا العجوز المحتالة، وانصرفوا للنوم ، قلبت بطاقتي البيضاء كثيراً بين أصابعي ، ثم أودعتها محفظتي وقررت بأن أحتفظ بها كي أتذكر تلك الليلة.
افترقنا بعد أن أنهينا دراستنا الجامعية ، بعد سنوات التقينا في العالم الافتراضي ، وقررنا أن نجتمع في مكان ما. أبهرتني صديقتي الأولى لفرط جمالها وأناقتها ، والأخرى ببطنها المنفوخ دليل حملها ، والثالثة بهيبة حضورها وحسن كلامها و غزارة ثقافتها.
تبادلنا الأحاديث والضحكات والأخبار العشوائية العابرة إلى أن ذكّرتنا إحداهن بذلك اليوم , لقد كان رقم هاتف ، قالوا معاً، كان ينقص رقماً أكملناه من مخيلتنا.
قالت الأولى : لقد كان رقم طبيب تجميل ، حقق لي كل ما أردته فعلاً، أعاد تشكيل جسدي ووجهي حتى أصبت بهوس السعي إلى الكمال، وفعلاً بدأت أكتمل من الخارج وأفرُغ من الداخل ، حياتي لا معنى لها ، لا يمكن أن أقنع أحدٌا ما بقدر القبح الذي يكمن خلف هذه الصورة المزيفة ، وبكت بحرقة.
لقد ردّ عليّ شاب ذات ليلة وأنا أجرب تلك الأرقام ، قالت الأخرى، ولمعت دمعة في عينيها تبعتها تنهيدة طويلة ، كان صوته عذباً وكلامه آسر ، نمت بيننا علاقة حب في ظرف أيام ، لقد كان ما أردته تماماً، وسيماً وغنياً.
شغفت بحبه وتزوجنا بعد شهرين، أنا أحمل طفله الثالث، وأنتظره كل ليلة على أحر من الجمر ،رغم أنني أعلم بأنه يخونني كل يوم .
قالت الثالثة: لقد كان رقم شخص مهم ، أكملت دراستي العليا وتعينت في نفس الجامعة ثم صرت رئيسة قسم ، الكل يكن لي الاحترام ، لكنني لم أتزوج حتى الآن ، وأتمنى أن أقف في المطبخ لخدمة زوجي وأولادي الذين لم أنجبهم بعد .
تذكرت البطاقة ، كنت قد نسيت وجودها منذ مدة، أنقلها من محفظة لأخرى دون أن أنظر فيها يوماً، كانت تمثل بالنسبة لي ذكرى غامضة .
و لأول مرة أُجيد قراءة الفراغ، لقد كُتب على بطاقتي بالممحاة ، احذر ما تتمناه.
*كاتبة وروائية ، إعلامية ومدربة في تطوير الذات والتنمية البشرية