حجّاجٌ بلا عصرٍ
بقلم / خولة سامي *
ضمن فعاليات مهرجانِ المسرح العربي في دورته الثامنةِ في الكويت ، قدمت الفرقة الوطنية للتمثيلِ عرضا بعنوان ( مكاشفات ) على مسرح عبد الحسين عبد الرضا من إعداد قاسم محمد و إخراج غانم حميد . لم يدُر في خلدي أنّ عنواناً كهذا سينطوي على
كمٍّ لا يوصف من الإبداع ،حين تناول بداياتِ الحجاج و قدومه أميراً على العراق ،إذ دخل المسجد الجامع بالكوفة معتمّا بعمامةٍ قد غُطي بها أكثر وجهه ، متقلدا سيفا متنكباً قوسا يؤمّ المنبر و قال : ( يا أهل الكوفة إني لأرى رؤوسا قد أينعت و حانَ قطافُها و إنّي لصاحبها ، و كأني أنظر إلى الدماء بين العمائم و اللحى تترقرق ... حتى قال : هذا أوان الشد فاشتدي زيم ...) ، ظهرت عائشة المرأة التي عشقها الحجاج و قتل زوجها ، محاولا بعدَها استرضاءها و استمالةَ عواطفها مرّة ترغيبا و أخرى ترهيباً ، لكنها أبت أن تكونَ نعجة تحت سكين عاطفتهِ المتأرجحة على الدوام ، أبت أن تنسى ثأر قلبها المفطورِ على زوجها الذبيح ، متحدية جورَ الحاكم و حصارهُ، مصمّمة على مكاشفته و البوح بما ينوء به قلبها عن الاحتمال ،و لو كانت حياتها لذلك ثمناً ، ما كان تحديها ذاك ليعيد لضحايا ظلمهِ أرواحَهم و أعمارهم المهدورةَ ،بل رامت إيقافَ مدّ الجور ،ذكّرتهُ بكل قولٍ موجع و فعلٍ وحشيّ لتقوده إلى الضوء ،فكابرَ و استكبرَ و أوّل العارفين بالظلمِ هو الظالم نفسه ،لكنه ضحية وحشٍ يسكنه بدل الإنسان .
الجميلُ في العمل أنه استعرض مراحل عدة ، ظهر فيها الحجاج بطريقة عصرية و ظلّت محبوبته على عنادها ، تقهرهُ في كل طورٍ من جبروته ،ترفضه في أوج قوته و لحظات ضعفه ،حتّى أطلت من بعيد صرخاتُ الشّـارع الهادرة التي علتْ خُطبَ المستبدين و تهديداتهم ،معلنة بدء عصرٍ جديدٍ .
المصداقية في العمل تبدت في صورة التّعسف و الظلم المستمرين عبر الأزمان ، معلنة أنّ الظلم باقٍ ما بقي الأحياء ،و رغم إيماننا أنّ كل الصراخ الذي ملأ الشوارع لم يزحزحْ طاغية عن عرشهِ ، إذ للقهر جذورٌ ممتدة بلا نهاية في حياة الإنسان العربيّ ،لكنّا ابتسمنا من أعماقنا حين خرجت من كل أرضٍ عائشة تتحدى حجاجَها بأنفةٍ و كبرياء و هي تعلم عاقبة المواجهة ،تلك حتمية القهرِ المتواصلِ الذي لابدّ سيوصِلُ إلى الانفجار .
ربما لا يكفينا كعربٍ أن نطردَ كلّ حجاجٍ يعتدي على هبة الله إلينا ،على أعمارنا ، أحلامنا و أرواحنا ... نريدُ صحوة تلغي زمن القطيع ، آملين أن يبحثَ أشباهُ الحجاج و أمثالُه في القادم من الأيام بلهفة ،عن عصرٍ يُغمدون فيه سيوف ظلمهم فلا يجدون!
* كاتبة وشاعرة