أسس التربية في القرآن الكريم
بقلم / د. أيمن أبومصطفى
العتبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ، وبعد،
نحن على موعد مع العتبة الثانية من أسس التربية في القرآن "عتبة التربية الإيمانية" فإن الإيمان متى ترسخ في النفس تغيرت نظرة المرء للحياة ، فلم تلهه الدنيا ولم تثنه عن هدفه الذي تقرر في العتبة الأولى ، فإن استقرار الإيمان في القلب يجعل المرء محفوفا برقابة الله تعالى ، فإن شرد بعض الوقت عن الطريق المستقيم عاد سريعا إليه لأن له نفسا إيمانية لوامة.
فسحرة فرعون تغير موقفهم بالإيمان ، فبعد أن كانوا مع فرعون يفكرون في الدنيا مناصبها وجاهها ، أصبح تفكيرهم – بعد رسوخ الإيمان – في الآخرة ، فاستوى عندهم التراب والتبر ؛لأنهم رأوا أن ما عند الله خير.
وإخوة يوسف برغم ما فعلوا إلا أنهم عادوا إلى الحق سريعا ، وتابوا واستغفروا وطلبوا الصفح من أبيهم وأخيهم يوسف عليهم جميعا الصلاة والسلام.
ولضرورة التربية الإيمانية المنبثقة من تأصيل العقيدة وجدنا سيدنا يعقوب عليه السلام يتأكد من رسوخها في قلوب أبنائه ، فهاهو القرآن الكريم ينقل لنا في سورة البقرة (133)هذا المشهد الذي علينا أن نتخيله ونتصوره " أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ "فها هو أب يحيط به أبناؤه ساعة الاحتضار ، فما الوصية التي ستأتي في ذهنه أولا ؟ لاشك أن هناك العديد من الوصايا التي تختلج في ذهنه وخاطره ، فبأيها يبدأ ؟ ربما لا يسعفه العمر لاستكمال الوصايا ، فأي وصية يختار؟
لقد اختار أمر العقيدة أمر الإيمان "ماذا تعبدون من بعدي؟" إنها التربية الإيمانية التي تجلت عواقبها في سورة النساء في هذه الآيات المبكية " وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا 9 إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا 10
فالإنسان يخاف على ذريته ولو كانوا أقوياء ، فما بالك إن كانوا "ضعافا"؟ فإن كل ضمان غير إيماني ليس ضمانا ، فالمال لايضمن صلاح الذرية بل قد يكون سبب هلاكها ، ولذا وجدنا هذا المشهد المهيب في سورة البقرة" أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ 266" فهذا الذي ظل يجمع لأولاده طوال حياته من حلال وحرام ، حتى بلغ من الكبر ما بلغ ، ثم يضيع كل ما جمعه في لحظة واحدة، لك أن تتصور حسرته ، لك أن تتخيل حاله ، وهو يعلم أنه لن يستطيع تعويض ذلك ، فقد مضى العمر وضعفت القوة.
أما التربية الإيمانية فهي كنز لا ينفد ، كنز لا تتغير قيمته ، فالإيمان هو العاصم ، لذا كان أول وصية لقمان لابنه:" وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لأبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ 13"
فالوصية الأولى هي الإيمان وعدم الشرك بالله ، ولذا جاءت بقية الوصية " يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ 16" فالتربية الإيمانية تعني تربية الأبناء على مراقبة الله وخشيته بالغيب ، ومتى ترسخ ذلك في نفوس الأبناء تحققت الرقابة الداخلية التي تكفل للابن الحياة المطمئنة المحفوفة بحب الله ورجاء مغفرته مع الخوف من عقابه.
ولذا وجدنا هذا الترابط البديع بين الأمر "باتقاء الله والقول السديد" وبين" الحث على عدم أكل مال اليتيم" وكأنها إشارة إلى أهمية هذه النظرة الإيمانية التي تجعل الفرد مسؤولا عن جميع أفراد المجتمع ، فيكون أبا لكل يتيم ، يقف جانبه ، يحافظ على ماله ، يضمن له حقوقه ، ليجد من يحافظ له على أبنائه –إن صاروا يتامى- فإنك إن أكلت مال اليتيم تعط لكل فرد في المجتمع المبرر ليأكل مال أبنائك حينما يكونوا يتامى.
هكذا نكون قد وقفنا على العتبة الثانية من عتبات التربية ، سائلين الله تعالى أن يبارك لنا في ذرياتنا " رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا".
هذا وبالله التوفيق.