كم تحمل من وجه..؟!
بقلم الأستاذ / عادل الدوسري *
لا أتذكر أين قرأتُ هذه العبارة، رُبما قرأتها كتغريدة في برنامج التواصل الاجتماعي Twitter وهي تقول:
"أحمل عدة وجوه.. لأن وجهاً واحداً لا يكفي لهذه الحياة..!"
حين قرأت هذه العبارة تذكرت قصة قصيرة كتبتها فيما سبق ولم أنشرها، رُبما آن الأوان لنشرها، وهي تعبر عن واقع الكثير منا، كتبت فيها:
كان سيكون يوماً عادياً كأي يوم يقضيه، يوم رتيب جداً، وممل جداً، ويشبه بقية أيامه الهامشية، تلك الأيام التي يقضيها في مكتبه طوال الصباح، عاكِفاً على أوراقه وعمله، محاولاً تناسي جراحه بالعمل المضاعف والذي يفوق طاقته وجهده.
يصحو في الصباح الباكر، يشرب قهوته الخالية من السُكر، يشعر أنه يتجرع نكهة المرارة في أيامه بينما يُدخن سيجارة واثنتين واحياناً ثلاثة. يخلع وجهه الغاضب من أيامه ومن سوء نفسه الأمارة بالحزن، تلك النفس التي لم تستطع التكيف مع تقلبات الحزن واللوعة.
ويرتدي وجهاً أقل عبوساً، تقاسيمه عملية أكثر، لولا أن الخط الأسود تحت أجفانه تشي بحالة أرق وتفكير طويل كطول ليل الشتاء. يذهب لعمله وعلى وجهه العملي ابتسامة تشي بوجعه أكثر مما تخفيه، لكنها على الأقل ابتسامة ظاهرية ومحاولة تجميلية لواقع سوف يعيشه مضطراً مع الناس.
في العادة يعود مباشرة إلى منزله قُبيل العصر، حاملاً وجهه الذي يرتديه وهو ذاهب للعمل كما يرتدي ثيابه، وحين يصل للمنزل الخالي يعود للطبطبة على كتف وحدته التي ظلت تلعن غيابه بقدر ما اعتادت عليه. يواسيها بقدر غيابه عنها، ويرتدي ذلك الوجه العبوس قبل أن يندمج مع قهوته وقصائده وسجائره..!!
في ذلك اليوم فاجئه اتصال من أخيه:
- ألو
- أهلاً
- أنت مدعو هذه الليلة في منزلي لوليمة العشاء!
- لكن....
- سأنتظرك بعد صلاة العشاء...
- ولكن....
- بالمناسبة هذه الوليمة أقمتها لك بمناسبة صدور كتابك الجديد..!
- اسمعني..!
- لا تتأخر
وتنتهي المكالمة ويضطر للحضور...
كيف لهم أن يحتفوا بحرفه الحزين، حرفه الذي لا يشبههم، ثم من قال لهم أنه يكتب من أجل هذه الوجاهة الاجتماعية أو الثقافية، هو يكتب ليشفى، لينسى!
أُسقط في يده.. وهلع مسرعاً إلى البيت ليبحث عن وجه لائق يحضر به هذه المناسبة التي سيحضرها جمع من السعداء والوجهاء.. لابد أن يكون وجهه لهذه الليلة سعيداً وهذا مستحيل، ولابد أن يكون وجيهاً وهذا أمر بعيد، لا يوجد لديه وجه لائق...!
ربما عليه ترتيب تقاسيم وجهه إذن، ليبدو مقبولاً، خاصة وأن الوليمة هي احتفاء به، لكن أي وجه يمكنه أن يستر خطيئة أوجاعه التي عثت في نفسه فسادا، حتى كره الحياة والاجتماعات والناس، وصار تعامله معهم في أضيق الحدود..!
وقف أمام المرآة التي لطالما تحملت حواراته الثقيلة مع انعكاسه السيء في زجاجها، دحرج ابتسامة ثقيلة على وجهه المكلوم وكأنه يدحرج حجراً ثقيلاً.
لم تكن جميلة بما يكفي، فعلها ثانية وثالثة وعاشرة، وفي كل مرة تطغى ملامحي الحزينة على كل شيء، وتفسد كل شيء..!
عاد للمحاولات الفاشلة مجدداً ولم يُفلح..!!
نظر إلى كتابه الذي يحتوي مجموعة من حروفه الحزينة، وسأل نفسه:
هل سيحتفون بحزني؟!
جلس على الأريكة، ودخن سيجارة ثم اتصل بأخيه:
- أهلاً
- في الحقيقة لا يمكنني الحضور؟
- ماذا، لقد بدأ الضيوف يتوافدون؟ أأنت مجنون؟ لماذا لن تحضر؟ قل لي لماذا؟!
وجاء صوته متحشرجاً:
لا أملك وجهاً مناسباً لهذه المناسبة؟!
* كاتب وروائي سعودي